في 1957 أراد خبير
التسويق والترويج الإعلاني الأمريكي "جيمس فيكاري" معرفة تأثير الإعلان على
العقل الباطن للمتلقى فلجأ إلى حيلة غريبة , حيث إستخدم جهاز يطلق عليه
"تاشيستوسكوب" "Tachisto scope" فى إحدى دور السينما بنيويورك وكتب من
خلاله على الشاشة "هل أنت عطشان؟؟ .. أشرب كوكا كولا "
"هل
أنت جائع ؟؟ .. كل فشار" وكانت تلك العملية تتم كالأتى: تظهر تلك العبارات
كل خمس ثواني بسرعة خاطفة على الشاشة, أثناء عرض الفيلم, دون أن يدرك
المشاهد أنه يقرأها بالفعل ولكن في حقيقة الأمر يقوم عقله الباطن بتسجيلها
بكل عناية, ومن خلال متابعته لعملية البيع عند البوفيه في فترة الإستراحة,
اكتشف الخبير التسويقي أن 90 % من المشاهدين يتوجهون لا إراديا لشراء
الكوكا كولا أو الفشار, فأطلق على تجربته اسم "الإعلان الخفي " أو
Subliminal Advertisement " "
لكن الكونجرس الأمريكي أقام الدنيا ولم يقعدها ومن ثم جرم اللجوء لهذه الوسيلة وأختفى فجأة صاحب التجربة ...
تطورت وسيلة الإعلان مع
الزمن والتطور التكنولوجي وأصبحت إحدى المواد المفروضة علينا كل دقيقة فى
حياتنا شئنا أم أبينا, وأصبح تأثيرها واضح على سلوك المجتمع دون أن ندرك,
فتحولنا بالتدريج إلى مجتمع مادي, استهلاكي لا ينتج, يلهث وراء كل سلعة
جديدة لإقتنائها.
أصبحت الإعلانات خطرا
يهدد أبنائنا يتعلمون منها سلوكيات غريبة وألفاظا أغرب, لأنه للأسف وبكل
بساطة لا توجد معايير أو ميثاق شرف يحمى المجتمع من براثن هذا السرطان
المتفشي المسمى بالإعلان ...
فى أوروبا والدول
المتقدمة يجرم القانون استخدام الأطفال في إعلانات المشروبات الغازية
والوجبات السريعة لما لها من أضرار على الصحة, أما في مجتمعاتنا فأطفالنا
مستباحون ويستخدمون بلا إنسانية لتدمير طفولتهم وصحتهم.
وأذكركم هنا بإعلان كان
يعرض منذ عامين لمشروب غازى شهير وكانت تقدمه فنانة مشهورة, حيث تلعب
الفنانة دور المدرسة ونرى في الخلفية طفل عمره لا يتجاوز الثانية عشرة من
عمره, نائم على الطاولة ولا يستطيع التركيز في الدرس, فتسأله المدرسة ما
به, ويرد التلميذ بأن المشروب الغازي نفذ بالأمس ولم يستطع إنهاء الواجب أو
التركيز, تصوروا !!! هل تدركون عمق الجريمة التى ترتكب فى حق أطفالنا؟
إنهم يرسخون أن التركيز والمذاكرة مرتبطة بهذا المشروب, فى حين أن كل
الأبحاث العلمية تقول إن نوعية هذه المشروبات تسبب الإدمان وهشاشة العظام,
هل تدركون الفئة العمرية المستهدفة؟ أنهم أطفال في طور التكوين, رجال ونساء
المستقبل, فبالله عليكم أى مستقبل ينتظر شباب مصاب بهشاشة عظام وأسنان
متأكلة ومدمنين لمشروبات مدمرة للصحة, وهل يستطيع هذا الشاب المدمر صحيا أن
يحمل سلاحا ويدافع عن وطنه؟
وأنظر إلى ذلك الإعلان
الآخر, حيث نرى الأب رمز العطاء والقوة والتضحية يخفي وراء ظهره منتج غذائي
ليأكله وحده بعيدا عن أطفاله, فما كان من ابنه إلا أن ربطه بالحبال في
الكرسي ليفوز بالمنتج ويأكله هو وحده ... أى قيم مدمرة تبث في مجتمعاتنا؟
وهذا الأخر الذي يعزف على
آلة موسيقية مع صديقه, فيطلب الأب منهما أن يخفضا صوتهما قليلا, فما كان
من صديق الابن إلا أنه إلتهم الأب, كلها إعلانات مدمرة للأخلاق والقيم
الأسرية, محفزة للعنف والأنانية.
فنرى من يخطفون أكياس
البطاطس ويفرون ليستأثروا بها لأنفسهم, ونرى طفلة صغيرة تمارس العنف ضد شخص
بالغ من أجل الفوز بمنتج أخر وهكذا ...
المآسي الإعلانية كثيرة
ولا مجال لذكرها كلها هنا, مدمرة للصحة و للأخلاق والمجتمع, فنسمع ونشاهد
موسيقى فجة, تعبيرات سوقية, وأفكار مدمرة, بالإضافة إلى تشويه صورة المرأة
المصرية وإظهارها في أحط الصور ...
إن الحروب الحديثة لم تعد
تعتمد على السلاح فقط, بل على تدمير المجتمعات وتفكيكها أخلاقيا ودينيا
وتدميرها صحيا, فأصبحنا محاصرين بهذه النوعية من الإعلانات والمسلسلات
والأفلام وأصبح البلطجي هو البطل والقدوة والمثل الأعلى, أمثال "عبده موتة"
و"الألماني" و "البلطجي".
أما عن القنوات الدينية
فحدث ولا حرج, قنوات تدعوا للفتنة والحرب الأهلية والأفكار المغلوطة عن
الأديان, تدعي أنها دينية وهي في الحقيقة لها دور خفي وهو تدميرالدين
وتنفير الشباب منه وتؤدى بنا إلى الهلاك, وأصبحت القيم والأخلاق التي كانت
تحكمنا في الماضي غائبة, نادرة وفي طريقها للإنقراض.
ووسط كل هذه الفوضى
الأخلاقية البيت غائب عن الوعي, مشارك في الجريمة دون أن يدرك, أصبح الضمير
والعقل حبيسين للإبهار والاندهاش واللهث وراء تلبية الرغبات الشرائية
المجنونة, حتى لو لم نكن فى حاجة إلى هذه المنتجات, وأصبحنا كالمستجير من
النار بالرمضاء ما بين التطرف الديني والإنهيار الأخلاقي ...
إذا أردنا أن يعود
مجتمعنا مجتمعا وسطيا, متحضرا, متسامحا, لابد أن نقف وقفة جادة ونحارب هذا
الإسفاف والإنحطاط الإخلاقي محاربة لا هوادة فيها, فالمجتمعات تتقدم
بأخلاقها ثم بعلمها.
وفي الماضى قالوا لنا
"الأدب فضلوه عن العلم" وقال شاعرنا العظيم أحمد شوقي رحمه الله "إنما
الأمم الأخلاق ما بقيت, فأن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا" وما وصلنا إليه الآن من
فوضى وإنعدام ضمير, فأنه يعود في المقام الأول لتدني الأخلاق والتدين
الظاهري, مع أن جوهر الدين هو المعاملة.
أختتم مقالي هذا بقول
الله تعالى من سورة الرعد "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"
صدق الله العظيم, وأعلموا أننا لن نستطيع أن ندرأ الأخطار التي تحيطنا من
كل جانب وندفع عن وطننا شر المتربصين والأعداء إن كنا بلا أخلاق أو دين
صحيح أو بدن سليم ...